أزقة ضيقة مظلمة تشكل دروب " الملاح " ..روائح طبخ ضحاياه بين عدس وسردين ،تصارعها احيانا رائحة قنوات التصريف ..بين الفينة والأخرى يتعالى صراخ صبية يلعبون في طمأنينة وحبور ، مكسرين هدوء الفضاء المحدود لبيوتات المدينة القديمة ..
في ركن ما من الملاح تسود جلبة غير عادية ..شبه طابور من الزبناء ينتظرون فرصتهم في اقتناص المتعة ..
آخرون قضوا وطرهم ، يغادرون المكان مطأطئين رؤوسهم وابتسامة محتشمة مرتسمة على محيا بعضهم ، تفضح ما قدموا على فعله .. لا شك في أنها تجربتهم الأولى على ما يبدو ..
كثيرا ما راودته فكرة الذهاب إلى هناك ،إذ أنه لغير ما مرة كان يسمع عن مغامرات أصدقائه مع بائعات الهوى ..
كانت حكاياتهم تلك ، كافية لتهييج أوصال مراهق مثله ، وإطلاق العنان لخياله الفتي كي يستعرض هو الآخر صورا لفحولته ..
ـ " لم يعد هناك من يؤمن بالحب العذري في هذا الزمن غيرك .. العفة في الحب انتهت بانتهاء عصر قيس وليلى ..لا تبق مغفلا .. إن الفتاة العفيفة لا وجود لها إلا في الأحلام .. إذا كان الواحد منا قد ضاجع عشرة فتيات على الأقل ، فهل ستبقى هناك فتاة ملاك ؟ .. "
ـ " كلهن كذلك إلا حنان فأنا أعرفها جيدا .."
يتذكر حواره مع صديقه،لكن ذلك لا يزيده إلا تعنثا .. حنان مثال الصديقة الوفية التي لم يعد لها نظير، وإن اللوم ـ كل اللوم ـ عليه هو الذي يفكر في خيانتها ..
ـ " مسكين .. تخاف من خيانتها ؟.. وهل هي زوجتك ؟ .. ما أدراك أنها لا تخونك ؟ ..حتى المومسات أنفسهن يؤكدن على أن الإخلاص لم يعد بين الزوجين ، فبالأحرى ألا يتعدى الأمر مجرد صداقة .. لا تكن مغفلا يا صديقي .."
ـ " لست مغفلا، وإذا كنت تريدني أن أرافقك إلى هناك فقد أفعل ذلك من أجل التجربة فقط و لن أكررها .."
بعد تردد طويل يأتي يوم الشروع في المغامرة ..فتيات في عنفوان الشباب يعرضن مفاتن أجسادهن بملابس مثيرة ، ومساحيق الزينة بادية على وجوههن بشكل مفرط .. نساء في أعمار متقدمة ، منهن من تكتفي بدور الوساطة ، عزاؤها في ذلك أن الدال على "الخير " كفاعله ، أو لاعتقادها بأنها المهنة التي تسبق التوبة .. ومنهن من لا تملك غير الإيمان بأن ألأذواق تختلف ما دامت الطيور على أشكالها تقع .. ومنهن من تراهن على أن وسيلة جلب المال مقابل المتعة هي وجه الشبه بين جميع الفئات والألوان والأشكال ، وعدا هذا هراء ..
تغمزه إحداهن ملوحة إليه بالدخول بعد أن رأت ما عليه من حيرة وتردد .. يتقدم بخطوات مضطربة ثملة ، وما إن تطأ قدماه عتبة الدار حتى تبسط المرأة إليه يدها طالبة منه مقابل ترحابها به ..
يرمي إليها ببضعة دراهم ،تفحصها في عجلة ثم تنظر إليه متسائلة :
ـ " أبهذه الدراهم سنسدد سومة الكراء ؟ أم سندفع إتاوة "المخزن" مقابل غض الطرف ؟"
رمقها بنظرة خجولة لا تخلو من استعطاف ثم همهم بكلمات متقطعة غير مسموعة قصد احتواء الموقف ، لم تشفع له في ذلك سوى عبارة الختام :
ـ " في المرة المقبلة سأرضيك .."
تجاوزها ، أشارت إليه بدخول أحد البيوت ، هم بالولوج ، سرت في جسمه قشعريرة سرعان ما تبددت أمام هول ما رأى ..
وقف مشدوها بعدما تمثلت عيناه صورة فتاة مألوفة لديه ، لم يشك في ذلك رغم فتور إضاءة الغرفة ..
تسمر مكانه بينما هبت هي الأخرى كالمصعوقة ، وطفقت تستر ما بدا من جسدها بملابس مبعثرة جنب السرير ..
شرع في استعادة أنفاسه ليجمع أشلاء كلمة تحاول الانفلات من ثغره رغما عنه ، وليتمكن أخيرا من تمتمتها في همس يقارب الهذيان :
ـ " أخـ .. تــي!! .. "
عدل سابقا من قبل Admin في الإثنين 16 أغسطس 2010 - 18:07 عدل 4 مرات